مقتطفات من كتاب يغالطونك اذ يقولون للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي رحمه الله
بادئ ذي بدئ يجب أن نتسائل عن معنى تطبيق الشريعة الإسلامية في ظل الدولة الإسلامية أو المجتمع الإسلامي. هل نبتغي من هذا المفهوم هو أن الأفراد والناس الذين تطبق في حقهم الشريعة الإسلامية في ظل هذه الدولة قد اكتسبوا صفة العصمة وتحرروا من أسر مشاعر البشرية الأحكام الإنسانية ويصبحوا ملائكة معصومين؟ ما أعتقد أن أحدا يتصور أن هذا هو مفهوم تطبيق الشريعة الإسلامية على مجتمع من المجتمعات.
فالناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصبحوا بفضل تطبيق الشريعة الإسلامية منزهين عن الأثام ومعصومين عن الأخطاء بل ظلوا بشرا كسائر الناس على الرغم من اصطباغهم بالاسلام وبالتزامهم بدين الله تعالى وظلوا كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم خطائين وخير الخطائين التوابون وعليه فان كان مقياس صلاحية الشريعة الإسلامية هو أن تجعل الناس معصومين فأقول لكم أنها غير صالحة أي أنها ليست صالحة لتحويل الناس من أناسي الى ملائكة منزهين عن سائر الأخطاء.
فالمقياس الأوحد لصلاحية تطبيق الشريعة الأسلامية هو أن ننظر فنجد أن الأحكام التي كانت سائدة في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعصر الخلفاء الراشدين, كانت الأحكام الشرعية التي تنزلت من عند الله عز وجل على قلب رسوله, استقبلها الناس بقبول حسن وأنها كانت تتجاوب مع مصالحهم وأنها كانت تحميهم من الشرور والأخطار ولم نجد أن المجتمع الاسلامي في تلك العصور قد تأبى على تلك الأحكام وقام تشاكس بين مصالح الناس الحقيقية وبين أحكام الشريعة الإسلامية بل لو تأملنا لوجدنا أن المجتمع الإنساني كان منسجما كل الانسجام مع الشريعة الاسلامية في عصور الخلافة الراشدة والتي تلتها من الأموية والعباسية وصدرا من الخلافة العثمانية الى عصر سليمان القانوني وكل من رجع الى تاريخ تلك الدول والى موسوعات التاريخ العربي سيجد برهان ذلك بشكل أوضح.
وقعة الجمل
حدث, كما يحدث في كل عصر, عوارض انبثقت عن فتنة خارجية تسربت الى المجتمع وأحدث نميمة خطيرة بين فئتين من المسلمين فوقع كثير من المسلمين في ضرام هذه الفتنة ثم إنها تقلصت وعاد المجتمع الإسلامي الى سابق عهده والى رؤيته الناصعة للشريعة الاسلامية وعاد المجتمع الى اعتصامه الشريعة الاسلامية وزاد تعلقه بها.
إن فئة خارجة عن الاسلام قد حاكت خيوط تلك الفتنة وكان الذي خطط لها وقاده عبد الله بن سبأ اليهودي المعروف بإبن السوداء الذي كان يهوديا وتقنع الإسلام زورا وحاول أن يشعل فتنة في اليمن فلم يتأتى له ذلك ثم ذهب الى مصر وجمع الناس حوله على مذهب لكي يحارب بهم الخلافة الراشدة في شخص عثمان بن عفان رضي الله عنه فلم يتأتى له ذلك وتصدى له علي بن أبي طالب رضي الله عنه. ثم جرب حظه أخيرا في إشعال هذه الفتنة بعد مقتل سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه ولسنا بصدد بيان الشناعة التي اقترقها عبد الله بن سبأ بين فئتين من المسلمين ولكن لكل من درس التاريخ بدقة سيعلم أن أخوة متحابين متألفين تسرب بينهم هذا الظربان فأفسد صلة مابينهم وسرعان ماعاد الأمر الى أعلى درجات الانسجام والتفاهم. يمكنكم الرجوع الى القصة الكاملة للفتنة في كتاب البداية و النهاية لابن كثير الجزء السابع الصفحة 234.
أطروحة أن الخلفاء الذين جاؤوا بعد عصر الخلافة الراشدة قد انغمسوا في الترف والموبقات وكانت حياتهم مليئة بالانحراف وهم القادة الذين ينبغي أن يكونوا المثل الأعلى للانضباط بأحكام الشريعة الأسلامية
ينظر هؤلاء الى عصر الخلافة العباسية وبالتحديد في فترة حكم هارون الرشيد على أنها مملوؤة بالبذخ والترف ويقفون ليتحدثون عن الانحراف في حياة هذا الرجل. وعندما تقرأ كلام هؤلاء الناس تجد بالفعل صورا ومظاهر لحكم شنيع ولبذخ لايكاد للعقل أن يتصوره وعندما تقرأ ترجمة هارون الرشيد بأقلام هؤلاء الناس تجد نفسك أمام إنسان يتطوح بين دنان الخمر وينتقل بين أحضان الغانيات اعتصر من الخلافة سكرا من أجل متعته وأهوائه.
وعليه نقول ونتسائل من حاك هذه الترجمات ووضعها وكتبها؟ كلكم يعرف الجواب.
هذه الترجمات تم نسخها والحصول عليها من كتب لأمثال كريمر وفان فلوتن وشاخت وغولدزيهر وعندما يعكف أناس من أبناء جلدتنا على هذه الترجمات ليتبينوا تاريخ مجتمعاتهم العربية فإنه من الطبيعية ليعودا بهذه الصورة المزرية والتراجم المؤسفة.
غير أننا جميعا نعلم أن المعتز بنفسه وهويته لايأخذ علم تاريخه وتراجم رجاله من أعدائه وأعداء تاريخه وإنما يأخذ علم ذلك من تراثه العربي الاسلامي من أمثال الطبري وابن خلدون وابن الاثير وابن كثير.
وإننا لانعتقد أبدا عصمة هؤلاء الخلفاء بل نعلم أنهم بشر من الناس وليسوا ملائكة تنزلوا من السماء فيهم من أخطأ وفيهم اجتهد فأخطأ ولكنني على يقين أنهم ليسوا بالصورة التي نسجتها أقلام المستشرقين.
فإذا أخذت ترجمة هارون الرشيد من كتب كأمثال الطبري تجد نفسك أماما رجلا يغزو عاما ويحج عاما, يصلي في اليوم مائة ركعة مالم يكن مشغولا بالغزو ولايقطع بأمر إلا بعد أن يستشير علماء الشريعة الإسلامية ومع ذلك فقد يجتهد فيخطئ وقد يغضب فينحرف الى ظلم.
فأي الصورتين نعتمد؟ أنأخذ بما يقرره أصحاب الدار أم بما يدعيه اللصوص المتسللون إليها !
شبهة أخرى عن ترف هارون الرشيد وإنفاقه مئتي درهم على الموائد
انظروا كم ترفع هذه القصة , مأخوذة من تاريخنا وتراثنا, من شأن هارون الرشيد من في ذهن أي إنسان عاقل ولكن لاداعي للعجب من أعداء تاريخنا عندما ينسجون هذا الكذب على التاريخ ولسان الدهر وعذرهم في ذلك هو حقدهم على هارون الرشيد. إنهم بلا شك جميعا قد قرؤوا مافعله هارون الرشيد بنقفور خليفة إيريني وهي معروفة عندما أرسل هارون الرشيد ردا على تهديدات نقفور قائلا: من هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم قرأت كتابك يا ابن الكافرة والجواب ماترى ليس ماتسمع, وتفصيل هذه القصة في عهد الامبراطورية الرومانية كالتالي:
فماذا تتوقعون منهم بعد أن يقرؤوا هذه القصة في حياة هارون الرشيد والامبراطورية الرومانية؟ لكننا نقول ماشأن العرب المسلمين الذين ينبغي أن يعتزوا بمثل هذه المواقف مابالهم يشيحون عن بوجوههم عن تاريخهم العربي؟ فالذي يقول أن الإسلام لم يطبق أكثر من خمسة وعشرين عاما والدليل مايقوله أعداء الإسلام عن حياة الخلفاء يضيف في افتئاته في حق الإسلام افتئاتا أخر على في حق تاريخه ورجاله لمصلحه أعداء أمتهم وتاريخهم.
ولكن فلنفرض أن مايقوله هؤلاء الأوروبيون عن الخلفاء صحيحا وأنهم كانوا أشر من هذا التصور الذي نسجوه لهم وأن الناس قد خانوا الأمانة بعد الخلافة واتجهوا ذات اليمين وذات الشمال ليبحثوا عن شرائع أخرى فهل هذا ذنب الإسلام أم هو ذنب الناس الذين توجهم الله بتاج الإسلام فلم يكونوا على مستوى هذا الشرف وانحرفوا عنه؟
ثم كيف أؤمن بالله ثم أقول أن شريعته التي تنزلت على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بأنها غير صالحة؟ فليس من المنطق أن نؤمن بالله ثم نقول بعد أن أمننا بوجوده وأمننا بأن محمد نبيه بأن الشريعة الاسلامية غير صالحة للتطبيق. فعندئذ هؤلاء الناس يرون بأنهم هم الألهة وليس الله سبحانه وتعال فمعنى ذلك أنهم هم الذين يعلمون وليس الله سبحانه وتعالى. هل يصدر هذا الكلام عمن يدعي بأنه يؤمن بالله تعالى؟