ملخص كتاب الوجود والعدم – الدكتور مصطفى محمود
الجزء الأول – قصة الوجود
الحياة لها حكاية.. لقد بدأت بسيطة على شكل ميكروب.. خلية واحدة تقوم وحدها بكل الوظائف.. تتنفس وتغتذي وتنمو وتتحرك بدون
أجهزة متخصصة.. ثم انقسمت الخلية إلى خليتين.. وكل خلية إلى خليتين وخرجت من الخلية الواحدة أعداد لا حصر لها من الخلايا.. ثم بدأت هذه الخلايا تتجمع في قبائل وفصائل تتحرك معاً وتتعايش معاً.. ثم تخلصت هذه الأعداد.. لتتخذ مخلوقات مركبة عديدة الخلايا ذات أجهزة متخصصة.. أقسام من خلاياها للتنفس.. وأقسام للغتذاء.. وأقسام للحركة.. وأقسام للإفراز.. وشيئاً فشيئاً النبات والحيوان المطر.
مرحلة بعد مرحلة.. انتقلت الحياة من الوحدة إلى التعدد.. ومن البساطة إلى التركيب.. ثم مزيد من التركيب، وهو تركيب له غاية واضحة.. هو سيادة الحيوان على بيئته.. وسيطرته على ظروفه.. الأجنحة أعطت الطائر القدرة على ركوب الجو والزعانف منحت الأسماك القدرة على ركوب البحر.. والأرجل منحت الدواب القدرة على الدبيب على البر.وحينما ظهر الإنسان استطاع عن طريق عقله أن يفقز قفزةأوسع.. فهو لم ينتظر مليون سنة لتصنع له أجنحة يطير بها أو زعانف يسبح بها.. وإنما اخترع الأدوات.. اخترع السفينة والغواصة والطائرة والصاروخ.. ومن أعضاء جسده اخترع الرافعة التي يبني بها.. والعجلة التي ينقل بها أثقاله.. ولكنه مازال يحمل في جسده كل بقايا الحيوانات التي خرجت من الماء. فداخل أمعائه تسكن دودة الإسكارس.. وحول قلبه تعيش دودة الإنكلستوما.. وفي دمه تسري كرات بيضاء مهمتها أن تبتلع كل دودة تدخل في جلده أو تختبئ في جرحه.. الاحتفاظ بالسلطة
ومرة أخرى كان هذا التعقيد يهدف إلى نفس الغاية التي هدف إليها الميكروب في تطوره.. كان يهدف إلى السيطرة على
البيئة والسيادة على الظروف.. إلى ركوب الطبيعة واستغلالهاوتبديلها بدلاً من الخضوع للطبيعة والانقياد لها والتقيد
بأغلالها.
الحياة إذن فيها غاية..
هناك مهمة ورسالة وتكليف.. كل منا منزل إلى الأرض وقد عقده هذا التكليف، أن يضيف طوبة جديدة إلى القلعة الحصينة التي بنها الحياة لتتحصن فيها، ويقود منها التاريخ وتسوس الكون والطبيعة لصالحها.
الحياة ليست خطاً عشوائياً.. ولا مصادفات ولا عبث.. والكون ليس حركة بلا وجهة.. وإنما حركة ذات وجهة.
المادة تتطور في خط سير واضح من الوحدة إلى التعدد.. ومن البساطة إلى التركيب، ومن الجزئ إلى المفردة، ومن الفريد إلى المجمع.
وقد يعود السائل فيسأل مرة أخرى. ولماذا تكون هناك حياة من الأصل، ولماذا يكون هناك أي اتجاه إلى السيادة على الطبيعة. ألا يُمكن أن تكون هناك طبيعة.. ما الداعي لأن تحي الطبيعة نفسها، وتقود نفسها بنفسها.
والجواب أنها بهذا تحقق الحرية.
بالمعرفة، والوعي، والقوة والسيادة يكتشف الإنسان نفسه ويمتلك كنوز عقله.. ويسيطر على الطبيعة حوله ويحقق حريته بوجوده، ويكتشف بنفسه سر وجود ربه وبلوغ السعادة.. والسيادة لا تجب نفسها عن سبب.. فهي دائماً غاية ذاتها. ويعود السائل فيقول إن هذا الكلام يفسر لنا التطور والتاريخ واتجاه الطبيعة في سيرها.. ولكنه لا يفسر، ومجردها لماذا وجدت من الأصل.
لماذا يكون هناك “امتلاك” ولا يكون هناك “خلاء”.. لماذا يوجد “عدم”؟
والغزالي رحمه الله رد على هذه المعضلة.. فهو يقول بأسلوبه المنطقي.. إن العدم معدوم فلا وجه للقول بوجوده أو
بفاشيته ووجوده. وما دام العدم معدوماً فالوجود لامتداد صرف لا نهاية له ولا آخر ولا حدود. لأن الوجود لا يمكن أن يجمد سوى العدم، والعدم معدوم.
فالوجود إذن لا مبدأ له ولا منتهى.. ولا يصح السؤال عن متى خلق.. ولم خلق.. فهو أبدي في الزمان، ولم يكن معدوماً ليقال من خلقه.. وهو في جميع مخلوقاته نقيض العدم.. ولكنه لا يشبع الشعور الذي يعني الموت. ويبس نبض العدم في رغم التشبث على الأوصال.
هناك سر..
وأنا أعتقد أن هناك أسراراً لا سراً واحداً.. وأن علمنا لا يطغى كل شيء.. وأن عمرنا المحدود لا يمكن أن يصل إلى إلا إلى حدود من الحقيقة. لأننا نحن في حدود الكبسية التي نُسِم بها.. الناس البشرين محدودين في مهمة محدودة بنهاية عمرنا. ولا يمكن أن نعرف غيبياً الخطة كلها. فلطالما نأسى النقطة الخالق.. ونحن محدودون بجد في الخطة كلها، وهي الوسيط.. حدف.. ولا يمكن لنا أن نحيط بالحقيقة.. الحقيقة لنتركها إلى عين تنتظر من ربوة الأبدية على الزمن كله.
كل ما أستطيع معرفته هو أن هذه الحياة ليست عبثاً ولا سخافة.. وإنما هي نظام محكم له آيات، وأنا موقن أن لي فيها رسالة.. ولنا مصيرة.. ولنا مخطط وأنا لا أعرف المخطط كله.. وإنما أعرف القليل جداً..
إذا كان كل ما وصلت إليه أن هدف هذه الرحلة هو التكامل.. تكامل القوة.. وتكامل الحس.. وتكامل السمع.. وتكامل البصر.. وتكامل العقل.. وصولاً بذلك إلى معرفة الإنسان لنفسه ومعرفتك لربك ومن ثم عبادتك.. فإن جلال هذه الأهداف هي كلها هذه الغايات هي مباركة.. لشقة الطريق. وهل بعد هذا هدف؟؟!! وهل بعد هذا سؤال؟؟!!
الجزء الثاني: هل الإنسان مخير أم مسير
والسؤال الذي يبادر إلى الذهن بعد ذلك. . إذا كان الله هو الفاعل لكل شيء، فماذا يبقى للعبد من فعل وعمل يحاسب عليه ويسأل..!؟
ثم ما هذه الكثرة من القوى الفاعلة التي تراها حولنا تعمل وتؤثر وكأن كلا منها إله والموضوع يتعقد بحسب نوع هذه الكثرة . كثرة الظواهر الطبيعية والقوى الخفية يقول لنا القرآن إنها من يسير الريح والسحب والأمر الإلهي والحكمة الإلهية كلها جنود تعمل من بين أعاصير وزلازل وبراكين وفيروسات وكبريات. ولكن الله جعل لفعل هذه المؤثرات أسبابًا وأوانًا ليجني سبيته
فيظهرها وكأنها تعمل من نفسها . والملائكة شأن شان الجند تعمل بالأمر الإلهي :
( لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ) .
( التحريم : 6 )
فلكل مظهر لشيئة الواحد. . ولا اختلاف بين الآيات الثلاث فلكل طوع أمره وهذا هو الحال مع كثرة الظواهر الطبيعية ومع القوى
المادية ومع الملائكة والملأ الأعلى. . أما ما بين الإنس والجن والشياطين فنحن من نفوس مجبرة تقطع وتصمى عن اختيار. وتختلف الأمر الإلهي إلى هوى نفوسها. . وهذا جعلها الله محل ابتلاء وحسابية وعقابا، وثوابا. وزرع القرآن يستند العمل إلى الشيطان فيقول موسى بعد أن قتل خصمه في الشجار:
(قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين. قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له).
(القصص : 15)
وفي هذا، القرآن مصادقة من الله على دور الشيطان ومسؤوليته فيما حدث. أما الإنسان فهو ذرة النزر وهو المدار الذي يدور حوله القرآن بحكم الخطاب. والإنسان في القرآن مأمور بالعمل ومكلف ومسؤول ومراتب وحساب على أعماله.
” وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ ” إلى عالم الغيب والشهادة يبينكم بما كنتم تعملون.
(الصافات : 24)
والقرآن يسند الأعمال مباشرة للعبد، كما يسندها صراحة للرب فيقول المسلمون لأهل الكتاب:
” اللّهَ رَبَّنَا وَرَبَّكُم لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُم أَعْمَالُكُمْ.”
(الشورى: 15)
” كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ.”
(المدثر : 38)
والمشكلة تبقى.. كيف نوفق بين وجود إرادة العبد وإرادة للرب.. وكيف نوفق بين هذا وبين تصورنا للتوحيد.. وكيف نفهم إسناد الفعلإلى العبد والرب معاً؟ هل هناك إرادتان وهل هناك مشيئتان هناك سر.
ونلمح هذا السر في الآية ذات الدلالة العميقة التي يخاطب الله بها نبيه:
” وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى.”
(الأنفال: 17)
فالله في هذه الآية العجيبة يثبت الرمي للنبي عليه الصلاة والسلام.