التالي هو من كتاب يغالطونك إذ يقولون للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي
المراد من مقولة أن العِلْم يتناقض مع الإيمان بالغيبيات أن الإنسان ينبغي أن يكون علمياً ولاينبغي أن يُخضع عقله إلا للعِلم وقواعده, ولما كان العِلم ينأى عن عن الغيبيات لبعدها عن موازين العِلم, إذن ينبغي للإنسان أن يَترفع بعقله فوقها, فلا يضع شيئا منها في ميزان معتقداته.
منذ أقدم العصور يتوارث العلماء التعريف التالي للعلم:
“إدراك الشيء على ماهو عليه بدليل”
فالعلم من شأنه أن يتناول الماضي السحيق فيغوص في أعمق أعماق ظلمات الماضي, كما يتناول المستقبل البعيد البعيد الذي لم نر تطبيقه بعد, كما يتناول الواقع الحاضر الخاضع للحس والمشاهدة.
فيقال: “فلان علم الشيء” , أي: أدركه على ماهو عليه بدليل. ونقول: فلان لم يعلم هذا الأمر, أي: لم يُدركه أو أَدركه على خلاف ماهو عليه, سواء كان ذلك الأمر متعلقا بتاريخ ماضٍ, أو نبوؤات مقبلة, أو متعلقا بواقع مرئي وخاضع لحواسه, في هذا العصر الذي نحن فيه.
فإذا رجعنا إلى المخزون العقلي للإنسان, نجد أن في خزانة عقله يقينيات كثيرة يجزم بها دون أن يراها أو يحس بها..فهو يجزم بأحداث تاريخية كثيرة وقعت, يجزم بالعصر الجاهلي ووجوده, يجزم بوجود شخص اسمه محمد بن عبد الله, أيا كانت هويته.. يجزم بالثورة الفرنسية, يجزم بالثورة البريطانية, يجزم بوجود معالم تاريخية, وإن لم يراها: الإهرامات في مصر,والكعبة في مكة,وتاج محل في الهند.. وإذا عددنا الأشياء التي تجزم بها عقولنا دون أن نبصرها, فستفوق العد والحصر.
ولم يقل أحد من العقلاء إن السبيل إلى اليقين محصور في أشياء المادة: أي: الخاضعة للحس, ومن ثم للتجربة والمشاهدة, بل الاتفاق قائم على أن السبيل إلى اليقين مفتوح أمام كل الموضوعات المادية والمعنوية أو الغيبية معا.
بقي أن نتسائل: هل هناك منهج علمي ضابط يسير العقل على هديه ليصل إلى مدركات يقينية مطابقة للواقع, في الأمور الغيبية أي: غير الخاضعة للحس والتجربة؟
ونقول في الجواب: نعم هنالك منهج علمي متبع يتضمن الضوابط والقواعد التي توصلنا إلى اليقين مطابق للواقع في الأمور الغيبية التي هي محل البحث, كما أن ثمة منهجا علميا متبعا يتضمن الضوابط والقواعد التي توصلنا إلى اليقين المطابق للواقع في الأمور المادية الخاضعة للحس والمشاهدة.
ومن المعلوم أن منهج الوصول إلى معلومات مادية, محصور في التجربة والمشاهدة.. وهذا مايقرره القرأن ويأخذنا به. ألا ترى كيف يصرفنا عن الاستخبار بشأنها, ويدفعنا إلى أن نعرفها ونسبين أسرارها عن طريق الملاحظة والتجربة والمشاهدة؟ فهو يقول مثلا
بسم الله الرحمن الرحيم
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ۚ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿٢٠﴾
صدق الله العظيم
ويقول
وَفِي أَنْفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴿٢١﴾
صدق الله العظيم
أما منهج الوصول إلى معلومات يقينية لأمور غيبية غير خاضعة للتجربة والمشاهدة, فيتمثل في طريقين:
أحدهما: طريق الاعتماد على الخبر اليقيني الذي يرقى لدرجة التواتر.
فإذا توافر هذا الخبر المتصل بيننا وبين أمر معنوي أو غيبي غير خاضع للحس, فلا ريب أن من شأن هذا الخبر أن يكسبنا اليقين.
وهذا المنهج يتعامل معه العالم الإنساني أجمع, فهو كالعملة العالمية الرائجة..فالعالم كله موقن بأخبار الثورة الفرنسية وأحداث الحرب العالمية الأولى والثانية.. والناس كلهم يستقلون أنباء الأرصاد الجوية بكامل التصديق واليقين, على الرغم أنها أنباء غيبية تتعلق بماض طواه الزمن عن التجربة والشهود, أو تتعلق بمستقبل لم ينشره الواقع الزمني بعد..وإنما مستندهم العلمي في ذلك, الخبر المتواتر الذي تنقله جموع كثيرة عن مثلهم إلى مصدر الخبر بحيث يستحيل اتفاقهم جميعا على الكذب.
ثاني الطريقين: مايسمى: بقانون التلازم, ويتم اللجوء إليه عندما لايتوافر الخبر المتواتر الذي يثمر اليقين بمضمونه. مثاله: أن يستيقن أحدنا وجود الماء في سفح بعيد يراه, عندما يبصر فوقه خضرة يانعة, أو بيوتا مسكونة.. على الرغم من أنه لم ير الماء, وإنما أدلى بقرار غيبي بوجوده, وذلك اعتمادا على وجود مايستلزمه وهو الخضرة اليانعة وسكنى الناس